الاعتراض : لقد ثبت أن عيسى ابن مريم في السماء من خلال الآية القرآنية : ﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا﴾ [النساء : ١٥٩]. حيث أن معناها أن اليهود سيؤمنون به قبل أن يموت لأن المعنى أن كل أهل الكتاب سيصدقون بعيسى قبل موته. وذلك بعد نزوله إلى الدنيا في آخر الزمان. وهذا لا يتحقق إلا إذا ظل حيا إلى يوم القيامة.
الردّ:
هذا المعنى المشار إليه محال. إذ إنه يعني أنه ﻻ بد أنْ يؤمن أهل الكتاب كلهم بالمسيح قبل موت المسيح. وهذا يقتضي بقاء أهل الكتاب أحياء منذ ألفي سنة وحتى نزوله.ليؤمنوا به. وهذا لم يحصل. وبذلك يبطل هذا المعنى.
قال الإمام ميرزا غلام أحمد القادياني : “وأما ما قلتُ في وفاة المسيح فما كان لي أن أقول من عند نفسي، بل اتبعتُ قول الله تعالى وآمنت بما قال الله تعالى – عز وجل -: “يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ”. فانظرْ كيف شهد الله على وفاته في كتابه المبين! ومعلوم أن الرفع وتطهير ذيل المسيح من إلزامات اليهود وبهتاناتهم، وغلبةَ أهل الحق وضربَ الذلة على اليهود، وجعلهم مغلوبين مقهورين تحت النصارى والمسلمين .. لقد وقعتْ هذه الأنباء والمواعيد كلها وتمت وظهرت، وما وقعت إلا على صورتها وترتيبها، وقد انقضت مدة طويلة على ظهورها ووقوعها، فكيف يعتقد عاقل بالغ ذو عقل سليم وفهم مستقيم بأن خبر التوفِّي الذي قُدِّمَ على هذه الأخبار في ترتيب الآية الموصوفة هو غير واقع إلى وقتنا هذا، وما مات عيسى بن مريم إلى هذا الزمان الذي فسد بضلالات أُمّته، بل يموت بعد نزوله في وقت غير معلوم؟ ولا يخفى سخافة هذا الرأي على المتفكرين.
والقائلون بحياة المسيح لما رأوا أن الآية الموصوفة تُبيّن وفاته بتصريح لا يُمكن إخفاؤه، جعلوا يؤوّلونها بتأويلات ركيكة واهية، وقالوا إن لفظ التوفي في آية: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ … } كان مؤخَّرا في الحقيقة من كل هذه الواقعات، يعني مِن رفع عيسى وتطهيره من البهتانات ببعث النبي المصدِّق وغلبةِ المسلمين على اليهود وجعلِ اليهود من السافلين، ولكن الله قدَّم لفظَ “المتوفي” على لفظ “رافعك” وعلى لفظ “مطهّرك” وغيرها مع حذف بعض الفقرات الضرورية رعايةً لصفاء نظم الكلام كالمضطرين. وكان اللفظ المذكور .. يعني: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في آخر ألفاظ الآية، فوضَعه الله في أوّلها اضطرارا لرعاية النظم المحكم، وكان الله في هذا التأخير والتقديم من المعذورين، فلأجل هذا الاضطرار وضَع الألفاظ في غير مواضعها وجعَل القرآن عضين. والآية بزعمهم كانت في الأصل على هذه الصورة: يا عيسى إني رافعك إليَّ، ومطهّرك من الذين كفروا، وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم مُنزلك من السماء ثم متوفّيك. فانظرْ كيف يبدّلون كلام الله ويحرّفون الكلم عن مواضعها، وليس عندهم من برهان على هذا .. إن يتّبعون إلا أهواءهم، وما كان لهم أن يتكلموا في القرآن إلا خائفين. وأنت تعلم أن الله مُنزَّه عن هذه الاضطرارات، وكلامه كله مُرتَّب كالجواهرات، والتكلُّم في شأنه بمثل ذلك جهالةٌ عظيمة، وسفاهة شنيعة، وما يقع في هذه الوساوس إلا الذي نسي قدرة الله تعالى وقُوّته وحوله، واحتقره وما قدَره حقّ قدره، وما عرَف شأن كلامه، بل اجترأ وألحقَ كلام الله بكلام الشاعرين.
وكيف يجوز لأحد من المسلمين أن يتكلم بمثل هذا، ويبدّل كلام الله مِن تلقاء نفسه، ويُحرّفه عن موضعه من غير سند من الله ورسوله؟ أليست لعنة الله على المحرِّفين؟ ولو كانوا على الحق فلِم لا يأتون ببرهان على هذا التحريف من آية أو حديث أو قول صحابي أو رأي إمام مجتهد إن كانوا من الصادقين؟ وكيف نقبل تحريفاتهم التي لا دليل عليها من الكتاب والسُنّة ولا نجدها إلا كتحريف اليهود من تلبيس الشياطين. وأما السلف الصالح فما تكلموا في هذه المسألة تفصيلا، بل آمنوا مجملا بأن المسيح عيسى بن مريم قد تُوُفّي كما ورد في القرآن، وآمنوا بمجدّد يأتي من هذه الأمة في آخر الزمان عند غلبة النصارى على وجه الأرض اسمه عيسى بن مريم، وفوَّضوا تفصيل هذه الحقيقة إلى الله تعالى، وما دخلوا في تفاصيله قبل الوقوع، وكذلك كانت سيرتهم في الأنباء المستقبلة كما هي سُنّة الصالحين. فخلَف مِن بعدهم خَلْفٌ أضاعوا سُنّتهم وتركوا سيرتهم، وأوَّلوا قول الله ورسوله إلى ما اشتهت أنفسهم، ثم أصرّوا عليه كأنهم عرفوا أسرار الله يقينا وكأنهم كانوا من المستيقنين. ألم يعلموا أن الله صرّح في القرآن العظيم بأن المتنصرين ما أشركوا وما ضلّوا إلا بعد وفاة المسيح كما يُفهَم من آية: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}؟ فلو لم يُتَوَفَّ المسيحُ إلى هذا الزمان للزم من هذا أن يكون المتنصرون على الحق إلى هذا الوقت ويكونوا مؤمنين موحِّدين.
يا حسرة عليهم! لِم لا يتفكرون في هذه الآيات؟ أليس فيهم رجل رشيد وفهيم وأمين؟ وأنت تعلم أن آية: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني} قد دلّت بدلالة صريحة واضحة بيّنة على أن ضلالة النصارى واتخاذهم العبد إلها مشروطةٌ بوفاة عيسى – عليه السلام -، ولا يُنكره إلا من عانَدَ الحق بسوء تميُّزه واستعمل المكابرةَ والتحكم بجهله وحُمقه، وأبى متعمدا مِن أن يكون من المهتدين. وإذا قيل لهم آمِنوا بما صرّح الله في كتابه من وفاة المسيح وضلالة النصارى بعد وفاته لا في زمن حياته، قالوا أنؤمن بمعان تخالف الأحاديث؟ وقد كانوا يعلّمون الناسَ أن الخبر الواحد يُرَدُّ بمعارضة كتاب الله، فنسوا ما ذكّروا الناسَ وانقلبوا إلى الجهل بعدما كانوا عالمين. وما نجد في حديثٍ ذِكْرَ رفع المسيح حيًّا بجسمه العنصري، بل نجد ذكر وفاة المسيح في البخاري والطبراني وغيرهما من كتب الحديث، فليرجع إلى تلك الكتب من كان من المرتابين.” (المصدر: كتاب حمامة البشرى).
وقال الإمام ميرزا غلام أحمد القادياني : “ثم إن دققتَ النظر في هذه الآية، وتحملها على أحسن وجوهها ومعانيها، فلا يخفى عليك أن مفهومها وسياق عبارتها يدل على وفاة المسيح كما يدل عليه منطوقها، فإن الله قد ذكر بعد قوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} كلماتٍ فيها تسلية للمسيح وتبشير له وإخبار عن أيامِ فتحِ متّبعيه وغلبتِهم على أعدائهم بعد وفاته؛ وهذا دليل واضح على أن موت عيسى – عليه السلام – كان قبل نصر من الله وقبل غلبة كان ينتظرها ويسأل الله فتحه..” (المصدر: كتاب حمامة البشرى).
لقد شرح الإمام ميرزا غلام أحمد القادياني قوله تعالى : ﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا﴾ [النساء ١٥٩] .
قال الإمام ميرزا غلام أحمد القادياني : ليكن معلوما هنا أن قول الله تعالى بأنه ما من أهل الكتاب إلا ويؤمن ببيانه عن أفكارهم إنما هو بيان إعجازي ومطابق تماما لما قاله الله تعالى لليهود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. فالمراد من هذا القول هو أن اليهود يقولون بأنهم قَتلوا المسيح على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه ملعون وليس نبيا صادقا – والعياذ بالله – وكذلك يقول النصارى إن المسيح قد مات على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه صار كفّارة عن ذنوبهم، ولكن الحق أن كِلا الفريقين مخطئ في أفكاره، ولا أحد من كِلا الفريقين يؤمن في قرارة قلبه بهذه الأفكار. بل اعتقادهم القلبي هو أن المسيح ما مات على الصليب يقينا. لقد أراد الله تعالى من هذا الكلام أن يدرك المنصفون على وجه القطعية من سكوت اليهود والنصارى أنه ليس في أيديهم بهذا الصدد شيء إلا الشك. ولمّا لزم اليهود والنصارى الصمتَ بعد الاطلاع على هذه الآية ولم يبرزوا في الميدان للإنكار، اتّضح أن السبب في ذلك أنهم كانوا يعرفون جيدا أنهم لو برزوا للمواجهة وادَّعَوا بما ليس في قلوبهم، لواجهوا ذلة وخزيا، ولسوف تظهر من الله آيةٌ تُثبت كذبهم، لذا لم ينبسوا ببنت شفة، بل لزموا الصمت. (المصدر: كتاب إزالة الأوهام).
أي أن المقصود هو أن الإعلان القرآني عن عدم موت المسيح على الصليب. وعدم قيام النصارى للرد. إنما سببه هو أن هذه هي العقيدة الصحيحة التي هي في قرارة قلوبهم. وأن القرآن بإعلانها قد جعلهم يسلمون بها. وهذا ﻷنهم في الأصل يبنون عقيدتهم عن موت المسيح على الصليب على الظن وليس على اليقين.
وقال الإمام ميرزا غلام أحمد القادياني : والآن يمكن للقراء أن يدركوا أن البحث الذي بدأه الله تعالى – وهو أن المسيح لم يمت على الصليب بل مات موتا طبيعيا – كان الهدف من ورائه أن الفئتين المختلفتين (أي اليهود والنصارى) كانوا يستنتجون من موته على الصليب نتيجتين مختلفتين لدعم موقفهما: قال اليهود إنه مات على الصليب، والمصلوب ملعون حسب التوراة، أي يُحرَم من قرب الله ومن شرفِ الرفع إلى الله، وإن شأن النبوة أرفع وأعلى من أن يصيبها هذا النوع من الذلة، أما المسيحيون فقد ابتدعوا – خشيةَ طعن اليهود- أن موت المسيح على الصليب لا يضره بشيء، بل قبِل لنفسه هذه اللعنة برغبته ليخلِّص منها المذنبين. فقد أراد الله أن يثبت بطلان موقف كِلتا الفئتين، وبيّن أنه لا أحد منهم يوقن بموت المسيح على الصليب، وإذا كان منهم من يوقن بذلك فليخرج للعيان. فلاذوا بالفرار ولم ينبسوا ببنت شفة. وإنها لمعجزة عظيمة للنبي – صلى الله عليه وسلم – وللقرآن الكريم، ولكنها خافية عن أعين المشايخ المعاصرين قليلي الفهم.
وأقسم بالذي نفسي بيده أن هذه الحقيقة قد كُشفت عليّ في هذه اللحظة بالذات، بالكشف، وكلّ ما كتبتُه آنفا فقد كتبتُه بتعليم ذلك المعلِّم الحقيقي، فالحمد لله على ذلك. (المصدر: كتاب إزالة الأوهام)
وقال الإمام ميرزا غلام أحمد القادياني : لا يستطيع أحد منهم أن يقول حالفا بالله أو مؤكدا البلاءَ أو العذابَ لنفسه بأنه واثق ومتيقّن أن المسيح قد قُتل في الحقيقة. والحق أن هذه الشكوك قد أطلّت برأسها في ذلك الوقت نفسه. ولقد حاول “بولُس” بحذلقته أن يزيل تلك الشكوك، ولكنها ظلت تزداد وتتفاقم. فمن الواضح تماما من بعض رسائل بولُس أنه لما أُنزل المسيح عن الصليب، ظهرت حجة قوية أخرى للعيان على كونه حيا، وهي أنه عندما طُعن بحربة في جنبه، تدفق منه على الفور دم. فلا يزال اليهود في شك بسبب عجلتهم، وأما النصارى فيشاركون في هذا الشك بناء على بيان الإنجيل. الحق أنه لا يسع مسيحيا يتدبر الإنجيل أن يعتقد على وجه اليقين أن المسيح مات على الصليب في الحقيقة، بل لا تزال قلوبهم في شك من أمره إلى يومنا هذا. والكفارة التي يشيعونها مبنية على تلة رملية قد ذَرَتها بيانات الإنجيل نفسه. فإن الآية القرآنية: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} لا تتضمن نبوءة كما يزعم إخواننا المشايخ الذين يدّعون أنهم علماء كبار، بل تبيِّن واقع الحال الذي كان موجودا في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم -. بمعنى أن الله تعالى يسرد ماهيّة أفكار اليهود والنصارى السائدة آنذاك إتماما للحجة، ويُظهر عليهم حقيقة قلوبهم، ويُدينهم ويفهِّمهم أنه إذا كان بيانه – سبحانه وتعالى – هذا غير صحيح، فليبرُزوا في الميدان وليعلنوا بوضوحٍ أن هذا الخبر ليس صحيحا، ولم تتطرق الشكوك والشبهات إلى قلوبهم، بل يوقنون بأن المسيح قد مات مصلوبا في الحقيقة.
هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن الله جلّ شأنه يهدف من قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} الوارد في نهاية الآية أنه يجب ألا يستنتج أحد من عدم موت المسيح على الصليب إنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب، لذا فإنه لم يمت إلى الآن. فقال تعالى: إن هذا بيانٌ لما جرى قبل موته ميتة طبيعية، فلا تستنبطوا من ذلك عدم موته، إذ قد مات المسيح بعد ذلك ميتة طبيعية. فقد قال – سبحانه وتعالى – في هذه الآية بأن اليهود والنصارى يؤمنون ببياننا هذا بالاتفاق على أن المسيح لم يمت حتما على الصليب، وليس لديهم إلا الشكوك والشبهات فقط بهذا الصدد. فإنهم يؤمنون بالأحداث التي سبقت موتَه – قبل أن يؤمنوا بموت المسيح الطبيعي الذي حدث في الحقيقة -؛ لأنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب – الأمر الذي كان اليهود والنصارى يريدون أن يستنتجوا منه نتائج معينة لتحقيق أهدافهم – صار إيمانهم بموته الطبيعي محتوما عليهم، لأن الذي يولَد سيموت حتما. فإن تفسير العبارة: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هو: قبل إيمانه بموته.
ومن ناحية ثانية يُستنبَط من الآية معنًى آخر أيضا وهو أن هذه الأفكار والشكوك والشبهات لا تزال تراود قلوب اليهود والنصارى منذ وقتٍ لم يكن المسيح قد مات فيه بعد. فمن منطلق هذا المعنى يشهد القرآن الكريم ضمنيًّا على موت المسيح.” (المصدر: كتاب إزالة الأوهام)
إرسال التعليق